بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد:
فمن الأحكام التي تساهل الناس في إطلاقها, وصف قتيل المعركة من صفوف المقاومة الإسلامية بالشهيد دون تقييد أو تحفظ. وهو أمر مخالف للسنة.
وقد اختلف في معنى الشهيد على سبعة أقوال:
أحدها: أن الشهيد هو الحي كأنه شاهد أي حاضر قال الله سبحانه: (بل أحياء عند ربهم يرزقون) فأرواحهم قد أحضرت الجنة وشهدتها وغيرهم لا يشهدونها هذا قول النضر بن شميل.
والثاني: أن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة قاله ثعلب وابن الأنباري:
والثالث: لأن ملائكة الرحمة تشهده.
والرابع: لسقوطه بالأرض والأرض الشاهدة بما كان حكى القولين أبو الحسين ابن فارس. والخامس: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله تعالى حتى قتل, قاله أبو سليمان الدمشقي.
والسادس: لأنه شهد لله سبحانه بالوجود والإلهية بتسليم نفسه للقتل لما شهد له غيره بالقول ذكره بعض أهل العلم)
السابع: لأنهم ممن يستشهد يوم القيامة مع النبي على الأمم الخالية قال الله عز وجل : ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)) كما في لسان العرب(3/242)
روى مسلم (114) عن عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة...) الحديث.
وفيه أن قتيل المعركة قد لا يكون شهيدا.بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم كلا). ولسنا نمنع من إجراء الأحكام الظاهرة عليه, المترتبة على موته في أرض المعركة.إنما نمنع أن يشهد له بالشهادة التي يلزم منها الحكم له بالجنة. والصحيح أن يقال في القتيل: (نحسبه شهيدا والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) أو شبهها! (وعلى هذا, فالمراد النهي عن تعيين وصف واحد بأنه شهيد, بل يجوز أن يقال ذلك على طريق الإجمال) كما قال الحافظ في الفتح!
ومثل حديث عمر ما رواه البخاري (2742/ باب لا يقول فلان شهيد ) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا, فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره, ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه. فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار. فقال رجل من القوم:أنا صاحبه قال:فخرج معه كلما وقف وقف معه ,وإذا أسرع أسرع معه قال: فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض, وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه, فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله. قال: وما ذاك قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك...ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)
قال العيني في عمدة القاري (14/180): (مطابقته للترجمة (باب لا يقول فلان شهيد)من حيث إن الصحابة لما شهدوا برجحان هذا الرجل في أمر الجهاد, كانوا يقولون إنه شهيد لو قتل, ثم لما ظهر منه أنه لم يقاتل لله وأنه قتل نفسه علم أنه لا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد قطعاً, لاحتمال أن يكون مثل هذا, وإن كان يعطي له حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة)
وقال الحافظ معلقا على قول البخاري (باب لا يقول فلان شهيد) في فتح الباري (6/90): (أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي).
وروى أحمد في المسند (1/40) وسعيد بن منصور (1/193) عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر يقول: (...وأخرى تقولونها لمن قتل في مغازيكم ومات: قتل فلان شهيدا, ومات فلان شهيدا, ولعله أن يكون قد أوقر عجز دابته أو دف راحلته ذهبا أو ورقا يلتمس التجارة, لا تقولوا ذاكم ولكن قولوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أو كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: ( من قتل أو مات في سبيل الله فهو في الجنة) وحسن إسناده الحافظ في الفتح(6/90)
وروى أبو نعيم في حلية الأولياء (8/251)حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى ثنا محمد ثنا عبدالله بن خبيق ثنا يوسف بن أسباط عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تعدون الشهيد فيكم؟) قالوا :من أصابه السلاح. قال : (كم ممن أصابه السلاح وليس بشهيد ولا حميد وكم ممن مات على فراشه حتف أنفه عند الله صديق شهيد)
قال أبو نعيم: ( غريب بهذا الإسناد واللفظ, لم نكتبه إلا من حديث يوسف)
قال فيه الحافظ في الفتح (6/90): (في إسناده نظر, فإنه من رواية عبد الله بن خبيق بالمعجمة والموحدة والقاف مصغر عن يوسف بن أسباط الزاهد المشهور)
وروى البخاري في صحيحه (2635 ) عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)
وفي حديث آخر عنده (2649 ) وعند مسلم (1876) عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك)
قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (19/14): (في قوله عليه السلام والله أعلم بمن يكلم في سبيله دليل على أن ليس كل من خرج في الغزو تكون هذه حاله حتى تصح نيته ويعلم الله من قلبه أنه خرج يريد وجهه ومرضاته لا رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخرا)
قال الحافظ في لافتح (6/90) : (لا يطلع على ذلك إلا بالوحي فمن ثبت أنه في سبيل الله أعطي حكم الشهادة, فقوله [والله أعلم بمن يكلم في سبيله] أي فلا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله, فلا ينبغي إطلاق كون كل مقتول في الجهاد أنه في سبيل الله, ...فلا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد, لاحتمال أن يكون مثل هذا – يقصد من ذكر في حديث سهل بن سعد عند البخاري - وإن كان مع ذلك يعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة, ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء, والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب والله أعلم.)
وانظر أيضا فيض القدير للمناوي (4/138).