بسم الله الرحمن الرحيمافتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة
النمل ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة أو من أول كل سورة كتبت
في أولها أو أنها بعض آية من كل سورة أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها أو
أنها إنما كتبت للفصل لا أنها آية على أقوال للعلماء سلفاً وخلفاً وذلك
مبسوط في غير هذا الموضع، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى
ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري
في مستدركه أيضاً وروي مرسلاً عن سعيد بن جبير وفي صحيح ابن خزيمة عن أم
سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول
الفاتحة في الصلاة وعدها آية لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي وفيه ضعف
عن ابن جريح عن ابن أبي مليكة عنها، وروى له الدارقطني متابعاً عن أبي
هريرة مرفوعاً وروي مثله عن علي وابن عباس وغيرهما، وممن حكى عنه أنها آية
من كل سورة إلا براءة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلي ومن
التابعين عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري وبه يقول عبد الله بن
المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد
القاسم بن سلام رحمهم الله وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ليست من آية من
الفاتحة ولا من غيرها من السور وقال الشافعي في قوله في بعض طرق مذهبه هي
آية من الفاتحة وليس من غيرها وعنه أنها بعض آية من أول كل سورة وهما
غريبان. وقال داود هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذا رواية عن
الإمام أحمد بن حنبل وحكاه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي، وهما من
أكابر أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله. هذا ما يتعلق بكونها آية من الفاتحة أم
لا.
فأما الجهر بها فمفرع على هذا، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر
بها وكذا من قال إنها آية من أولها، وأما من قال بأنها من أوائل السور
فاختلفوا فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة وهو
مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً فجهر بها من
الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية وحكاه ابن عبد البر والبيهقي
عن عمر وعلي ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم أبو بكر وعمر وعثمان
وعلي وهو غريب، ومن التابعين عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري
وعلي بن الحسن وابنه محمد وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد
بن كعب القرظي وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين ومحمد
بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمرو وزيد
بن أسلم وعمر بن عبد العزيز والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وأبي
الشعثاء ومكحول وعبد الله بن معقل بن مقرن زاد البيهقي وعبد الله بن صفوان
ومحمد بن الحنفية زاد ابن عبد البر وعمر بن دينار والحجة في ذلك أنها بعض
الفاتحة فيجهر بها كسائر أبعاضها وأيضاً فقد روى النسائي في سننه وابن
خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة أنه صلى فجهر
في قراءته بالبسلمة وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله
عليه وسلم. وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم وروى أبو داود
والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتح الصلاة
ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال الترمذي: وليس إسناده بذاك. وقد رواه
الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال صحيح، وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك
أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كانت قراءته مدّاً ثم قرأ
ببسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم. وفي مسند
الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي
الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: {بسم الله
الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين}
وقال الدارقطني إسناده صحيح. وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في
مستدركه عن أنس أن معاوية صلى بالمدينة فترك البسملة فأنكر عليه من حضره من
المهاجرين ذلك فلما صلى المرة الثانية بسمل. وفي هذه الأحاديث والاَثار
التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها. فأما
المعارضات والروايات الغربية وتطريقها وتعليلها وتضعيفها وتقريرها فله موضع
آخر وذهب آخرون أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة وهذا هو الثابت عن الخلفاء
الأربعة وعبد الله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف وهو مذهب أبي
حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل. وعند الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة
بالكلية لا جهراً ولا سراً واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله
عنها قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة
بالحمد لله رب العالمين وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: صليت خلف
النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بالحمد لله
رب العالمين، ولمسلم ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا
في آخرها، ونحوه في السنن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. فهذه مآخذ
الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة من جهر
بالبسملة ومن أسر ولله الحمد والمنة.
قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه
الله في تفسيره حدثنا أبي حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا زيد بن المبارك
الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي حدثنا أبي عن طاوس عن ابن عباس أن عثمان
بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن {بسم الله الرحمن الرحيم} ؟
فقال: «هو اسم من أسماء الله وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين
سواد العينين وبياضهما من القرب» وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن سليمان
بن أحمد عن علي بن المبارك عن زيد بن المبارك به، وقد روى الحافظ بن مردويه
من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي
سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عيسى بن مريم عليه السلام
أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب فقال، ما أكتب ؟ قال
بسم الله، قال له عيسى: وما بسم الله ؟ قال المعلم، ما أدري، قال له عيسى:
الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الاَلهة،
والرحمن رحمن الدنيا والاَخرة، والرحيم رحيم الاَخرة» وقد رواه ابن جرير من
حديث إبراهيم بن العلاء الملقب زبرِيق عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن
يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر عن عطية عن أبي سعيد عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وهذا غريب جداً، وقد يكون صحيحاً إلى
من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد يكون من الإسرائيليات لا من
المرفوعات والله أعلم. وقد روى جويبر عن الضحاك نحوه من قبله، وقد روى ابن
مردويه من حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة وفي رواية عن عبد الكريم
أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن دواد وغيري وهي {بسم الله
الرحمن الرحيم}، وروي بإسناده عن عبد الكريم بن المعافى بن عمران عن أبيه
عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: لما نزل {بسم
الله الرحمن الرحيم} هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح، وهاج البحر وأصغت
البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله
أن لا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه. وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن
ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرا {بسم
الله الرحمن الرحيم} فيجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد. ذكره
ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث «لقد رأيت بضعة وثلاثين
ملكاً يبتدرونها» لقول الرجل ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً
فيه، من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفاً وغير ذلك. وقال الإمام أحمد بن حنبل
في مسنده: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال: سمعت أبا تميمة يحدث
عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فقلت تعس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقل تعس الشيطان،
فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال بقوتي صرعته، وإذا قلت باسم الله
تصاغر حتى يصير مثل الذباب» هكذا وقع في رواية الإمام أحمد، وقد روى
النسائي في اليوم والليلة وابن مردويه في تفيسره من حديث خالد الحذاء عن
أبي تميمة وهو الهجيمي عن أبي المليح بن أسامة بن عمير عن أبيه قال: كنت
رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال: «لا تقل هكذا فإنه يتعاظم حتى
يكون كالبيت، ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة» فهذا من تأثير
بركة بسم الله، ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول، فتستحب في أول الخطبة لما
جاء «كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم» وتستحب
البسملة عند دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك وتستحب في أول الوضوء
لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن من رواية أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبي
سعيد مرفوعاً «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» وهو حديث حسن ومن
العلماء من أوجبها عند الذكر ههنا ومنهم من قال بوجوبها مطلقاً وكذا تستحب
عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة، وأوجبها آخرون عند الذكر ومطلقاً في
قول بعضهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وقد ذكره الرازي في
تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «إذا أتيت أهلك فسم الله فإنه إن وجد لك ولد كتب بعدد
أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات» وهذا لا أصل له ولا رأيته في شيء من الكتب
المعتمد عليها ولا غيرها، وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة: «قل بسم الله وكل
بيمينك وكل مما يليك» ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه وكذلك تستحب عند
الجماع لما في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان
وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً».
ومن ههنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في
قولك بسم الله هل هو اسم أو فعل متقاربان، وكل قد ورد به القرآن، أما من
قدره بسم تقديره بسم الله ابتدائي فلقوله تعالى: {وقال اركبوا فيهم بسم
الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} ومن قدره بالفعل أمراً أو خبراً
نحو أبدأ بسم الله او ابتدأت باسم الله فلقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي
خلق} وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بد له من مصدر فلك أن تقدر الفعل ومصدره
وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله إن كان قياماً أو قعوداً أو أكلاً أو
شراباً أو قراءة أو وضوءاً أو صلاة فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك
كله تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل والله أعلم، ولهذا روى
ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن
عباس قال: إن أول ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: «يا
محمد قل: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل {بسم
الله الرحمن الرحيم} قال: قال له جبريل بسم الله يا محمد يقول اقرأ بذكر
الله ربك وقم واقعد بذكر الله تعالى» لفظ ابن جرير.
وأما مسألة الاسم هل هو المسمى أو غيره ففيها للناس ثلاثة أقوال: أحدها
أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن
فورك، وقال الرازي وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري في مقدمات
تفسيره قالت الحشوية والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير نفس
التسمية، وقالت المعتزلة الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن
الاسم غير المسمى وغير التسمية، ثم نقول إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ
الذي هو أصوات متقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى وإن
كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب الإيضاح الواضحات وهوعبث،
فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث، ثم شرع
يستدل على مغايرة الاسم للمسمى، بأنه قد يكون الاسم موجوداً والمسمى
مفقوداً كلفظة المعدوم وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد
يكون الاسم واحداً والمسميات متعددة المشترك وذلك دال على تغاير الاسم
والمسمى وأيضاً فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتاً ممكنة أو واجبة
بذاتها وأيضاً فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر
النار أو برد الثلج ونحو ذلك ولا يقوله عاقل وأيضاً فقد قال الله تعالى:
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله
تسعة وتسعين اسماً» فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى وأيضاً
فقوله: {ولله الأسماء} أضافها إليه كما قال: {فسبح باسم ربك العظيم} ونحو
ذلك فالإضافة تقتضي المغايرة وقوله تعالى: {فادعوه بها} أي فادعوا الله
بأسمائه وذلك دليل على أنها غيره واحتج من قال الاسم هو المسمى بقوله
تعالى: {تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام} والمتبارك هو الله تعالى
والجواب أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة، وأيضاً فإذا قال الرجل زينب
طالق يعني امرأته طلقت ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق والجواب أن
المراد أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق. قال الرازي: وأما التسمية فإنه
جعل الاسم معيناً لهذه الذات فهي غير الاسم أيضاً والله أعلم.
(الله) علم على الرب تبارك وتعالى يقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف
بجميع الصفات كما قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب
والشهادة هوالرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو هو الملك القدوس
السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو
الله الخالق البارى المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض
وهو العزيز الحكيم} فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له كما قال تعالى: {و
لله الأسماء الحسنى فادعوه بها} وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا
الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وفي الصحيحن عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا
واحداً من أحصاها دخل الجنة» وجاء تعدادها في رواية الترمذي وابن ماجه وبين
الروايتين اختلاف زيادة ونقصان وقد ذكر الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله
خمسة آلاف اسم : ألف في الكتاب والسنة الصحيحة، وألف في التوارة وألف في
الإنجيل، وألف في الزبور وألف في اللوح المحفوظ.
وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف في كلام العرب له
اشتقاق من فعل يفعل فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له
وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين
والغزالي وغيره وروى عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة، قال
الخطابي: ألا ترى أنك تقول ياألله ولا تقول يا الرحمن، فلولا أنه من أصل
الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام وقيل إنه مشتق واستدلوا
عليه بقول رؤبة بن العجاج:
لله در الغانيات المدّه سبحن واسترجعن من تألهي
فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر وهوالتأله من أله يأله إلاهة وتألهاً كما
روي عن ابن عباس أنه قرأ (ويذرك وإلاهتك) قال عبادتك أي أنه كان يعبد ولا
يعبد وكذا قال مجاهد وغيره وقد استدل بعضهم على كونه مشتقاً بقوله تعالى:
{وهو الله في السموات وفي الأرض} كما قال تعالى {وهو الذي في السماء إله
وفي الأرض إله} ونقل سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه مثل فعال فأدخلت الاَلف
واللام بدلاً من الهمزة قال سيبويه مثل الناس أصله أناس وقيل أصل الكلمة
لاه فدخلت الألف واللام للتنظيم وهذا اختيار سيبويه: قال الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني
قال القرطبي بالخاء المعجمة أي فتسوسني، وقال الكسائي والفراء أصله
الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية كما قال تعالى {لكنا
هو الله ربي} أي لكن أنا وقد قرأها كذلك الحسن، قال القرطبي: ثم قيل هو
مشتق من وله إذا تحير والوله ذهاب العقل: يقال رجل واله وامرأة ولهى
ومولوهة إذا أرسل في الصحراء فالله تعالى يحير أولئك والفكر في حقائق صفاته
فعلى هذا يكون ولاه فأبدلت الواو همزة كما قالوا في وشاح أشاح ووسادة
أسادة وقال الرازي وقيل إنه مشتق من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فالعقول لا
تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته لأنه الكامل على الإطلاق
دون غيره، قال الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} قال: وقيل من لاه
يلوه إذا احتجب وقيل اشتقاقه من أله الفصيل أولع بأمه. والمعنى أن العباد
مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال: وقيل مشتق من أله الرجل
يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره فالمجير لجميع الخلائق من كل
المضار هو الله سبحانه لقوله تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه} وهو المنعم
لقوله تعالى {وما بكم من نعمة فمن الله} وهو المطعم لقوله تعالى: {وهو يطعم
ولا يطعم} وهو الموجد لقوله تعالى {قل كل من عند الله} وقد اختار الرازي
أنه اسم غير مشتق ألبتة، قال وهو قول الخليل وسيبويه، وأكثر الأصوليين
والفقهاء ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه منها أنه لو كان مشتقاً لاشترك في
معناه كثيرون، ومنها أن بقية الأسماء تذكر صفات له فتقول الله الرحمن
الرحيم الملك القدوس، فدل أنه ليس بمشتق قال فأما قوله تعالى {العزيز
الحميد الله} على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان، ومنها قوله تعالى
{هل تعلم له سميّاً} وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامداً غير
مشتق نظر والله أعلم.
وحكى الرازي عن بعضهم أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي ضعفه وهو حقيق
بالتضعيف كما قال، وقد حكى الرازي هذا القول ثم قال وأعلم أن الخلائق قسمان
واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه
الجهالة، فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى
عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال فتاهوا في ميادين الصمدية وبادوا في
عرصة الفردانية، فثبت أن الخلائق كلهم والهون في معرفته، وروي عن الخليل بن
أحمد أنه قال لأن الخلق يألهون إليه بفتح اللام وكسرها لغتان، وقيل إنه
مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع لاها، وكانوا يقولون إذا
طلعت الشمس لاهت، وقيل إنه مشتق من أله الرجل إذا تعبد وتأله إذ تنسك،
وقرأ ابن عباس (ويذرك وإلاهتك) وأصل ذلك الإله فحذفت الهمزة التي هي فاء
الكلمة فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف
فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة وفخمت تعظيماً
فقيل الله.
(الرحمن الرحيم) اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد
مبالغة من رحيم وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا، وفي
تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه السلام أنه
قال: والرحمن: رحمن الدنيا والاَخرة، والرحيم: رحيم الاَخرة، وزعم بعضهم
أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم وقد قال {وكان بالمؤمنين
رحيماً} وحكى ابن الانباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن: اسم عبراني ليس
بعربي وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى الرحيم
عربي والرحمن عبراني فلهذا جمع بينهما قال أبو إسحاق وهذا القول مرغوب عنه
وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرّجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن
بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قال الله
تعالى أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن
قطعها قطعته» قال: وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق، قال
وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له، قال القرطبي: ثم قيل
هما بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيد، وقيل ليس بناء فعلان كفعيل فإن
فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك رجل غضبان للرجل الممتلى
غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي: الرحمن
اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم إنما هو من جهة
المؤمنين قال الله تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيما} وقال ابن عباس: هما اسمان
رقيقان أحدهما أرق من الاَخر أي أكثر رحمة، ثم حكي عن الخطابي وغيره أنهم
استشكلوا هذه الصفة وقالوا لعله أرفق كما في الحديث «إن الله رفيق يحب
الرفق في الأمر كله وأنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» وقال ابن
المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب وهذا كما جاء في
الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لم يسأل
الله يغضب عليه» وقال بعض الشعراء:
الله يغضب ان تركت سؤاله وبنيّ آدم حين يسأل يغضب
وقال ابن جرير حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت
العزرمي يقول: الرحمن الرحيم قال: الرحمن لجميع الخلق الرحيم قال بالمؤمنين
قالوا ولهذا قال {ثم استوى على العرش الرحمن} وقال {الرحمن على العرش
استوى} فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته وقال {وكان
بالمؤمنين رحيماً} فخصهم باسمه الرحيم قالوا فدل على أن الرحمن أشد مبالغة
في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء
في الدعاء المأثور رحمن الدنيا والاَخرة ورحيمهما. واسمه تعالى الرحمن خاص
به لم يسم به غيره كما قال تعالى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّا ما
تدعوا فله الأسماء الحسنى} وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا
أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن
اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب فصار
يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر وأهل الوبر من أهل
البادية والأعراب.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكدّ به والمؤكد لا
يكون إلا أقوى من المؤكد والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من
باب النعت ولا يلزم فيه ما ذكروه وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم
يسم به أحد غيره ووصفه أولاً بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره كما قال
تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}
وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان
معه في الضلالة وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره قال: { لقد جاءكم رسول
من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} كما وصف غيره
بذلك من أسمائه كما قال تعالى {إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاح نبتليه
فجعلناه سميعاً بصيراً} والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ومنها
ما لا يسمى به غيره كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك فلهذا بدأ
باسم الله ووصفه بالرحمن لأنه أخص وأعرف من الرحيم، لأن التسمية أولاً إنما
تكون بأشرف الأسماء فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص. فإن قيل: فإذا كان الرحمن
أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم، فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه
أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك فإنه لا
يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء. ووجهه
بذلك والله أعلم وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم
ذلك بقوله {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء
الحسنى}ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لعلي اكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} فقالوا لا نعرف الرحمن ولا
الرحيم. رواه البخاري وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة
وقال تعالى {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا
وزادهم نفوراً} والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم
فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله بالرحمن قال ابن جرير وقد
أنشد بعض الجاهلية الجهال:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندب الطهوي:
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا
أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال الرحمن الفعلان من الرحمة هو من
كلام العرب وقال {الرحمن الرحيم} الرفيق الرقيق لمن أحب أن يرحمه والبعيد
الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها. وقال ابن جرير أيضاً:
حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال الرحمن اسم
ممنوع. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن
الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن
ينتحلوه تسمى به تبارك وتعالى. وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقطع قراءته حرفاً حرفاً {بسم الله الرحمن الرحيم *
الحمد الله رب العالمين} فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة ومنهم من وصلها بقوله
{الحمد لله رب العالمين}. وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور، وحكى
الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة
فيقولون {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين} فنقلوا حركة
الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قُرى قول الله تعالى: {الم الله لا إله
إلا هو} قال ابن عطية ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت.
الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَالقراء السبعة على ضم الدال في قوله الحمد لله هو مبتدأ وخبر. وروي عن
سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا (الحمد لله) بالنصب وهو على
إضمار فعل وقرأ ابن أبي عبلة الحمد لله بضم الدال واللام اتباعاً للثاني
الأول وله شواهد لكنه شاذ، وعن الحسن وزيد بن علي {الحمد لله} بكسر الدال
اتباعاً للأول الثاني.
قال أبو جعفر بن جرير معنى {الحمدالله} الشكر لله خالصاً دون سائر ما
يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا
يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الاَلات لطاعته وتمكين
جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق،
وغذاهم من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبههم عليه
ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم
المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً. وقال ابن جرير رحمه الله:
الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه
قال: قولوا الحمد لله. قال وقد قيل أن قول القائل الحمد لله ثناء عليه
بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقوله الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه ثم
شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من
الحمد والشكر مكان الاَخر وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر
الصادق وابن عطاء من الصوفية، وقال ابن عباس الحمد لله كلمة كل شاكر، وقد
استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل الحمد لله شكراً، وهذا الذي ادعاه
ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد
هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون
إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة: يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم اختلفوا أيهما أعمّ الحمد أو الشكر على قولين والتحقيق أن بينهما
عموماً وخصوصاً فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على
الصفات اللازمة والمتعدية، تقول حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه وهو أخص، لأنه
لا يكون إلا بالقول، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول
والفعل والنية كما تقدم وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا
يقال شكرته لفروسيته وتقول شكرته على كرمه وإحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرره
بعض المتأخرين والله أعلم.
وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: الحمد نقيض الذم، تقول حمدت
الرجل أحمده حمداً ومحمدة فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد
أعم من الشكر، وقال في الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف
يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح. وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون
للحي وللميت وللجماد أيضاً كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ويكون قبل
الإحسان وبعده، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضاً فهو أعم.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج
عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه:
قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله، فما الحمد لله، فقال علي: كلمة
رضيها الله لنفسه، ورواه غير أبي معمر عن حفص فقال: قال عمر لعلي ـ وأصحابه
عنده ـ: لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر قد عرفناها فما الحمد لله
؟ قال علي: كلمة أحبها الله تعالى لنفسه ورضيها لنفسه وأحب أن تقال، وقال
علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران: قال ابن عباس: الحمد لله كلمة الشكر
وإذا قال العبد الحمد لله قال: شكرني، عبدي رواه ابن أبي حاتم، وروى أيضاً
هو وابن جرير من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه
قال الحمد لله هو الشكر لله هو الاستخذاء له والإقرار له بنعمته وهدايته
وابتدائه وغير ذلك، وقال كعب الأحبار: الحمد لله ثناء الله، وقال الضحاك:
الحمد لله رداء الرحمن، وقد ورد الحديث بنحو ذلك.
قال ابن جرير: حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني
عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت
الله فزادك، وقد روى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن
الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك
وتعالى فقال: «أما إن ربك يحب الحمد» ورواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن
علية عن يونس بن عبيد عن الحسن الأسود بن سريع به. وروى أبو عيسى الحافظ
الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن
خراش عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل
الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله» وقال الترمذي حسن غريب،
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد الله إلا كان الذي أعطى
أفضل مما أخذ» وقال القرطبي في تفسيره وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال
الحمد لله كان الحمد لله أفضل من ذلك» قال القرطبي وغيره أي لكان إلهامه
الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لله لا يفنى ونعيم
الدنيا لا يبقى قال الله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا
والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} وفي سنن ابن ماجه عن
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم أن عبداً من عباد الله قال
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فعضلت بالملكين فلم
يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا
ندري كيف نكتبها، قال الله، وهو أعلم بما قال عبده، ماذا قال عبدي ؟ قالا
يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال
الله لهما «اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها» وحكى القرطبي عن
طائفة أنهم قالوا قول العبد الحمد لله رب العالمين أفضل من قوله لا إله إلا
الله لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد، وقال آخرون لا
إله إلا الله أفضل لأنها تفصل بين الإيمان والكفر وعليها يقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله، كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الاَخر:
«أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وقد
تقدم عن جابر مرفوعاً «أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد
لله» وحسنه الترمذي والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد
وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله
وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله» الحديث.
والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح
وكل ذلك صحيح في حق الله ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة تقول: رب
الدار، رب كذا، وأما الرب فلا يقال إلا الله عز وجل، وقد قيل إنه الاسم
الأعظم. والعالمين جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عز وجل والعالم جمع لا
واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السموات وفي البر والبحر وكل
قرن منها وجيل يسمى عالماً أيضاً. قال بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك
عن ابن عباس {الحمد لله رب العالمين} الحمد لله الذي له الخلق كله السموات
والأرض وما فيهنّ وما بينهن مما نعلم ومما لا نعلم. وفي رواية سعيد بن جبير
وعكرمة عن ابن عباس: رب الجن والإنس، وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن
جريج وروي عن علي نحوه قال ابن أبي حاتم بإسناده لا يعتمد عليه، واستدل
القرطبي لهذا القول بقوله تعالى: {ليكون للعالمين نذيراً} وهم الجن والإنس.
قال الفراء وأبو عبيد: العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة
والشياطين ولا يقال للبهائم عالم. وعن زيد بن أسلم وأبي محيصن العالم كل ما
له روح ترفرف. وقال قتادة: رب العالمين كل صنف عالم، وقال الحافظ ابن
عساكر في ترجمة مروان بن محمد وهو أحد خلفاء بني أمية وهو يعرف بالجعد
ويلقب بالحمار أنه قال خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السموات وأهل الأرض
عالم واحد وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عز وجل.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى:
{رب العالمين} قال الإنس عالم وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف
عالم ـ هو يشك ـ الملائكة على الأرض وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة
ألاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم الله لعبادته. رواه ابن جرير وابن أبي
حاتم. وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات، يعني ابن
الوليد، عن معتب بن سمي عن سبيع يعني الحميري في قوله تعالى: {رب العالمين}
قال: العالمين ألف أمة فستمائة في البحر وأربعمائة في البر، وحكي مثله عن
سعيد بن المسيب وقد روي نحو هذا مرفوعاً كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن
علي بن المثنى في مسنده: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي
أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن
عبد الله قال: قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها، فسأل عنه فلم
يخبر بشيء، فاغتم لذلك، فأرسل راكباً يضرب إلى اليمن وآخر إلى الشام وآخر
إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد بشيء، أم لا قال فأتاه الراكب الذي من
قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثم قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول «خلق الله ألف أمة: ستمائة في البحر
وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل
النظام إذا قطع سلكه» محمد بن عيسى هذا وهو الهلالي ضعيف وحكى البغوي عن
سعيد بن المسيب أنه قال لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر
وقال وهب بن منبه لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها، وقال مقاتل:
العوالم ثمانون ألفاً، وقال كعب الأحبار لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز
وجل نقله البغوي. وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال إن لله أربعين
ألف عالم الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها، وقال الزجاج العالم
كل ما خلق الله في الدنيا والاَخرة قال القرطبي: وهذا هو الصحيح إنه شامل
لكل العالمين كقوله: {قال فرعون وما رب العالمين ؟ * قال رب السموات والأرض
وما بينهما إن كنتم موقنين} والعالم مشتق من العلامة (قلت) لأنه علم دال
على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز:
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
الرّحْمـَنِ الرّحِيمِوقوله تعالى: {الرحمن الرحيم} تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن
الإعادة قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين
ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب كما قال تعالى: {نبى عبادي أني أنا
الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقوله تعالى: {إن ربك سريع
العقاب وإنه لغفور رحيم} قال: فالرب فيه ترهيب والرحمن الرحيم ترغيب وفي
صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولو يعلم
المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند
الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد».
مَـَلِكِ يَوْمِ الدّينِقرأ بعض القراء (ملك يوم الدين) وقرأ آخرون (مالك) وكلاهما صحيح متواتر
في السبع، ويقال ملك بكسر اللام وبإسكانها، ويقال مليك أيضاً وأشبع نافع
كسرة الكاف فقرأ (ملكي يوم الدين) وقد رجح كلا من القراءتين مرجّحِون من
حيث المعنى وكلتاهما صحيحة حسنة، ورجح الزمخشري ملك لأنها قراءة أهل
الحرمين ولقوله: {لمن الملك اليوم} وقوله: {قوله الحق وله الملك} وحكي عن
أبي حنيفة أنه قرأ: {ملك يوم الدين} على أنه فعل وفاعل ومفعول وهذا شاذ
غريب جداً وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئاً غريباً حيث قال: حدثنا
أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا عبد الوهاب بن عدي بن الفضل عن أبي المطرف
عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان
ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرؤون (مالك يوم الدين) قال ابن شهاب
وأول من أحدث «ملك» مروان (قلت) مروان عنده علم بصحة ما قرأه لم يطلع عليه
ابن شهاب و لله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مردويه أن رسول
لله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها (مالك يوم الدين) ومالك مأخوذ من الملك
كما قال تعالى: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} وقال {قل أعوذ
برب الناس ملك الناس} وملك مأخوذ من الملك كما قال تعالى: {لمن الملك
اليوم لله الواحد القهار} وقال {قوله الحق وله الملك} وقال: {الملك يومئذ
الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً} وتخصيص الملك بيوم الدين لا
ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عامّ في الدنيا
والاَخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئاً ولا
يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا
يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} وقال تعالى: {وخشعت الأصوات
للرحمن فلا تسمع إلا همساً} وقال تعالى: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه
فمنهم شقي وسعيد} وقال الضحاك عن ابن عباس {مالك يوم الدين} يقول لا يملك
أحد معه في ذلك اليوم حكماً كملكهم في الدينا، قال: ويوم الدين يوم الحساب
للخلائق وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر إلا
من عفا عنه، وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف هو ظاهر وحكى ابن
جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى أن تفسير مالك يوم الدين أنه القادر على إقامته
ثم شرع يضعفه والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم وأن كلاً من
القائلين هذا القول وبما قبله يعترف بصحة القول الاَخر ولا ينكره، ولكن
السياق أدل على المعنى الأول من هذا، كما قال تعالى: {الملك يومئذ الحق
للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً} والقول الثاني يشبه قوله تعالى: {
ويوم يقول كن فيكون} والله أعلم. والملك في الحقيقة هو الله عز وجل، قال
الله تعالى: {هو الله الذي لاإله إلا هو الملك القدوس السلام} وفي الصحيحين
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً «أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك
الأملاك ولا مالك إلا الله} وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك
الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟» وفي القرآن العظيم {لمن الملك
اليوم ؟ لله الواحد القهار} فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل
المجاز كما قال تعالى: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} {وكان وراءهم ملك}
{إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا} وفي الصحيحين «مثل الملوك على الأسرة».
والدين الجزاء والحساب كما قال تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق}
وقال {أئنا لمدينون} أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث «الكيس من دان نفسه
وعمل لما بعد الموت» أي حاسب نفسه كما قال عمر رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم
قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من
لا تخفى عليه أعمالكم {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}.
إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُقرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من إياك وقرأ عمرو ابن فايد
بتخفيفهامع الكسر وهي قراءة شاذة مردودة لأن إيا ضوء الشمس، وقرأ بعضهم
أياك بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم هياك بالهاء بدل الهمزة كما قال
الشاعر:
فهياك والأمر الذي إن تراحبت موارده ضاقت عليك مصادره
ونستعين بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب
والأعمش فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم، والعبادة في
اللغة من الذلة يقال طريق معبد وبعير معبد أي مذلل وفي الشرع عبارة عما
يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف. وقدم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام
والحصر أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك وهذا هو كمال الطاعة،
والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السلف الفاتحة سر
القرآن، وسرها هذه الكلمة {إياك نعبد وإياك نستعين} فالأول تبرؤ من الشرك،
والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل، وهذا المعنى في
غير آية من القرآن كما قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما
تعملون}، {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا}، {رب المشرق والمغرب لا إله
إلا هو فاتخذه وكيلا} وكذلك هذه الاَية الكريمة {إياك نعبد وإياك نستعين}
وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب وهو مناسبة لأنه لما أثنى
على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال {إياك نعبد وإياك
نستعين} وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على
نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ولهذا
لا تصح صلاة من لم يقل ذلك وهو قادر عليه كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن
الصامت قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة
الكتاب» وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل إذا قال
العبد {الحمد لله رب العالمين} قال الله حمدني عبدي، وإذا قال {الرحمن
الرحيم} قال الله أثنى علي عبدي، فإذا قال {مالك يوم الدين} قال الله مجدني
عبدي، وإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين} قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي
ما سأل، فإذا قال {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين} قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» وقال الضحاك عن
ابن عباس رضي الله عنهما {إياك نعبد} يعني إياك نوحد ونخاف ونرجوك يا ربنا
لا غيرك {وإياك نستعين} على طاعتك وعلى أمورنا كلها وقال قتادة {إياك نعبد
وإياك نستعين} يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم وإنما
قدم {إياك نعبد} على {وإياك نستعبن} لأن العبادة له هي المقصودة والاستعانة
وسيلة إليها والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم والله أعلم. فإن
قيل: فما معنى النون في قوله تعالى: {إياك نعيد وإياك نستعين} فإن كانت
للجمع فالداعي واحد وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام ؟ وقد أجيب بأن
المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ولا سيما إن كان في